أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عايدة الجوهري - اليساري الجديد















المزيد.....



اليساري الجديد


عايدة الجوهري

الحوار المتمدن-العدد: 7926 - 2024 / 3 / 24 - 00:15
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


استغرب الصحافي في "العربي الجديد" أن أكون بصدد إعداد كتاب عن مفاهيم الانتماء إلى الوطن، والمواطنة، والهوية الوطنية، هو الذي كان يعد العدة لمحاورتي حول كتابي "اليسار الماهية والدور"، لافتراضه أنّ المفاهيم متباعدة، وتنتمي إلى حقول مختلفة تماماً، فكان هذا الحوار الذي أبرزت فيه نقاط التقاطع، والمشتركات، من وجهة نظري:

 أنت منشغلة حالياً بالإشكاليات التي تطرحها مسألة المواطنة والانتماء إلى الوطن، فما الذي يجمع بين الإشكاليات التي عالجتِها في مؤلفاتك السابقة، ابتداءً من كتاب "رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات"، مروراً بـ "اليسار الماهية والدور" وغيره، وصولاً إلى "دروس شهرزاد"، وبين إشكاليات المواطنة والانتماء إلى الوطن؟
- تنتمي هذه الإشكاليات إلى حقول فكرية ونقدية مختلفة، ولكنّها ليست متناقضة، أو متباعدة، جوهرياً، وتتقاطع وتتشابك من حيث الهواجس، ومن حيث منظومة المفاهيم الموظّفة في التحليل، ومن حيث الأهداف الأخيرة.
إنّ الكتابة هي رحلة البحث عن المعنى، والحقيقة، داخل الذات وخارجها، في العالم، وتكون مقنعة كلما استندت إلى منظومة مفاهيم علمية، وأدلة وبراهين وحجج مواتية.
نحن محاصرون بالتناقضات والمفارقات والأسئلة، ولا بد للكاتب المهموم بمشاكل مجتمعه أن يتفاعل، أو يوظف معارفه، وعقله التحليلي، لتفكيك الظواهر الاجتماعية الإشكالية، ومحاولة العثور على أجوبة عن الأسئلة التي تطرحها هذه الإشكاليات، والأمثل على حلول.
ويقع على عاتق المثقف، توظيف معارفه ومهاراته، في سبيل ما يجب أن يكون، لا من أجل ما هو كائن وعفا عليه الزمن.
وأنا أجد صلة وثيقة مباشرة بين محتويات كتابي "اليسار الماهية والدور"، والإشكاليات التي يطرحها مفهوم المواطنة ومقولاته، فهي إشكاليات متعالقة، لأنّ اليساري يهدف، في العمق، إلى تطوير واقع الإنسان، لأنّه يعترف به كفاعلية حرة، وككائن مستقل الإرادة، ومسؤول، وصانع لتاريخه، وذي كرامة غير قابلة للانتهاك، وبما أنّه كذلك، هو "كائن حقوقي"، يفترض أن تتمركز التنظيمات السياسية والاجتماعية حول هذه المسلّمة.
وهذه المسلّمة لم تنشأ بغتةً، وخلسةً عن التاريخ، بل جاءت كحصيلة للأفكار التنويرية والإنسانوية، والتجارب السياسية والاجتماعية العالمية. وتبلورت هذه المسلّمة في مفهوم "المواطنة"، ومقولاته ومترتباته.

 ما هي تفاصيل الصلة الوثيقة، كما تصفينها، التي تجدينها بين مفهومك الذاتي للرؤية اليسارية النموذجية، ومفهوم المواطنة ومستتبعاته، والتي جعلتك تقترحين أن يكون مبدأ "المواطنة" هدفاً رئيساً لليساريين العرب؟
- بدايةً أنا سأستعمل مصطلح "اليساري الجديد" للدلالة على اليساري الذي يُحسن تشخيص مشاكل مجتمعه ومعضلاته، والذي لم يهجر قيمه وأخلاقياته، ومفاهيمه الأساسية، ولم يتنكر لها لأنّها لصيقة بوجدانه وحسه السليم، ولم يلتحق بعناوين العصر النيوليبرالية، التي آلت إلى ما آلت إليه، ويحاول بكل ما أوتي من وسائل، عصرنة رؤيته التغييرية، واستدخال مفردات ومفاهيم جديدة، تقرّبه من أهدافه.
ولم تعد بالتالي مفردة "مواطنة" بعيدة عن مفرداته السياسية، وخطابه التغييري، خلافاً للثقافة السياسية السائدة والتي تعمل السلطات الحاكمة على بثها وترسيخها.
لم يعد اليساري الجديد يحلم بمجتمع خالٍ من الطبقات والملكيات الخاصة، وبالمساواة المطلقة بين الناس، بين الكسول والخانع، والجاد، المنتج والمبدع، ولا بدكتاتورية عمالية، وهو لم يعد يرضى بإلغاء شخصية الإنسان المتفردة، والمستقلة، والمبدعة، في سبيل عدالة مزعومة.
ولم يعد الإنسان وسيلته لاختبار صحة التنبؤات النظرية، فاليساري هو بالتعريف نقدي، موضوعي، جدلي، لا يأخذ بالأفكار الاتباعية، أو ما يسمى "ثوابت" و"مسلّمات"، إلا تلك التي يرتضيها حسّه السليم ووجدانه، فهو يأبى التصرف ضد إرادة البشر الحرة، مؤمناً بمركزية الإنسان، وقدراته الإبداعية، أميناً بذا لأفكاره ومنطلقاته التنويرية، وهو بات يأخذ بالحسبان، المعطيات والمحددات الموضوعية، والتجارب الخاصة بالمجتمعات التي ينشط فيها، فلا يُسقط عليها النظريات التجريدية والطوباوية.
وما يرنو إليه هذا اليساري، لم يعد منفصلاً عن التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اختبرتها المجتمعات على مستوى العالم، والتي كانت ثمرة الأفكار التنويرية ونظريات العقد الاجتماعي، وحقوق الفرد الطبيعية، وأسهمت طروحات الثورة الفرنسية، والأفكار الاشتراكية التي انبثقت عنها، ابتداءً من بالوف Baleuf، وشارك فورييه، وسان – سيمون وتلامذته، وأفكار كانت Kant، وغيرهم، وصولاً إلى ماركس ومن تلاه، في بلورتها، وتعميقها.
ولا يفوتنا أنّ تركيز الأمم المتحدة ابتداءً من أواسط ستينات القرن الماضي، على حقوق الإنسان – المواطن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كان انعكاساً للشعارات والأحداث التي رفعتها ما سُمي آنذاك بالدول الاشتراكية.
ما زال مفهوم "المواطنة"، الذي يحوّل الإنسان، إلى كائن حقوقي قانوني، بعيداً عن ثقافتنا السياسية، ولم تتمثله، حتى أنّ مفهومَي "الحق" و"القانون"، مفهومان غريبان إلى حد كبير عن اللغة الإعلامية، ومحصور استعمالهما بالنخب التغييرية الواقعية.
تعريفاً، "المواطنة" هي مجموعة الحقوق المكرسة التي يكتسبها الفرد من خلال عضويته في مجتمع معين، فهي ليست مجرد جنسية تجيز لحاملها، الإقامة والتجول، والعمل، إذا استطاع لذلك سبيلاً، والاستفادة من الخدمات العامة الشحيحة، إذا أتيحت، دون أي حقوق دستورية، شاملة مكرسة، وواضحة، معمول بها، وقابلة للتطوير.
يتأسس مفهوم "المواطنة"، على مفاهيم المساواة أمام القوانين والفرص الحياتية، وعلى مفاهيم الحرية، والحق، والعدالة والديمقراطية، وهذه ليست شعارات طنانة، بل تختبرها المجتمعات الديمقراطية، وتُطورها وتُعدّلها باستمرار، وإن حاولت الحكومات الانتقاص من الحقوق، تنهض الشعوب ضدها، لأنّها باتت جزءاً من ثقافتها.
نحن متخلفون بما لا يقل عن قرنين ونيف عن تمثّل مفهوم "المواطنة"، الذي تضمنته "شرعة حقوق الإنسان والمواطن" التي أقرتها "الجمعية الوطنية الفرنسية" عام 1789، عام اندلاع الثورة الفرنسية، وما لبثت هذه الشرعة أن تطورت وتبلورت، وتوسعت إلى أن آلت إلى سلسلة من التشريعات العالمية، افتتحها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، تلاه أواخر الستينات (1966) عهدان، الأول "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، والثاني "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1976، تلاهم جميعاً "إعلان الحق في التنمية" عام 1986، الذي يجعل الإنسان أو المواطن محوراً للعملية الإنمائية التي تستهدف رفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم، على أساس مشاركتهم النشطة والحرة والهادفة في التنمية، وفي التوزيع العادل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز والتعصب والتمييز العنصري (1986)، و"اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" (3/9/1981)، واتفاقية مناهضة التعذيب وسائر المعاملات أو العقوبات الوحشية اللاإنسانية أو المحطة بالكرامة الإنسانية (1987).
ويعود تاريخ إبداع مبدأ "المواطنة" في أوروبا بعد اكتشافه في أثينا، إلى بداية ظهور الفكر السياسي العقلاني التجريبي، وتزايد تأثيره نتيجة حركات الإصلاح الديني، وما تلاها من حركات النهضة والتنوير في الحياة السياسية، وقد استفاد هذا الفكر الجديد من الفكر السياسي الإغريقي والفكر القانوني الروماني، وجاء نتيجة تبلور العامل القومي إثر معاهدة وستفاليا عام 1648.
إذا دققنا في منظومة المفاهيم والمقولات التي استقطبها وراكمها مفهوم "المواطنة"، إبان ولادته الثانية، لوجدناه كامناً وراء "العقد الاجتماعي" الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأنّه وراء سيادة القانون لا الهوى، ووراء سيادة القانون المدني لا الديني، ووراء مقولة فصل السلطات، وتداول السلطة.
إنّه المواطن الملك والسيد، الذي تحوّل إلى "ذات حقوقية" بعد أن كان تابعاً لعصبية دينية أو مذهبية، أو إقليمية، أو لأمير.
إنّ الالتزام السياسي بمبدأ "المواطنة" في بلد ما، يتمثل في التوافق على عقد اجتماعي جديد، يؤكد على أنّ المواطنة وحدها هي مصدر الحقوق والواجبات، وبالتساوي بين جميع المواطنين دون تمييز ديني أو عشائري، أو عرقي، أو جندري، أو طبقي، بحيث يستأثر الأغنياء والأقوياء والأوليجارشيين بكل الحقوق والفرص دون غيرهم.

 ولكنّ نبرة الطروحات اليسارية تبدو أعلى من هذه الطروحات.
نحن لم نبتعد كثيراً عن الحساسية اليسارية التي تعتبر اللامساواة ذات أصل اجتماعي، والتي تُبرز فلسفتها دور علاقات القوة والاستغلال والهيمنة في توزيع المنافع والموارد والمواقع والامتيازات، وفي رسم التركيبة الأساسية للمجتمع، التي تحدد أوضاع ومواقع الأفراد حتى قبل ولادتهم، لتعود وتدغم كامل سيرورتهم، ويؤول الأخذ بمبدأ أنّ اللامساواة ذات أصل اجتماعي، إلى ضرورة العمل على تصحيح عواقب التفاوت، بتوفير مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع أفراد الشعب، كي يستقيم مبدأ "الاستحقاق"، و"المساهمة"، وصولاً إلى مبدأ التفوق. نحن لم نبتعد عن هذه الحساسية، لأنّ من شأن الأخذ بحقوق المواطنة الاقتصادية والاجتماعية الإسهام في تصحيح عواقب التفاوت، بتوفير فرص حياتية متكافئة أمام جميع أفراد الشعب، والعمل على توحيد "نقاط الانطلاق".
نعم يقتنع "اليساري الجديد" بأنّ العدالة لا تستقيم بدون تصحيح عواقب التفاوت الاجتماعي، القائم على القوة، والمصادفة، وتاريخ من استغلال النفوذ، ومراكمة فوائض القيمة، كي يتمكن مَن لهم المواهب والقدرات نفسها، من استغلال إمكانياتهم وطاقاتهم، في أن يكون لهم فرص النجاح نفسها، بصرف النظر عن مكانتهم الاعتباطية في المجتمع، أي أن يكون ثمة حد من التساوي في الفرص بغية إعادة ترتيب المجتمع على أساس الكفاءات الفردية العصامية، لا المزايا الوراثية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي لا فضل للفرد فيها.
يفضي الأخذ بمبدأ تكافؤ الفرص كشرط أساسي لتصحيح عواقب التفاوتات الاعتباطية، بشكل جوهري، إلى توفير فرص تعليم وتأهيل متساوية، لكل أفراد المجتمع، فلا يتم توزيع المعارف والخبرات البشرية المتراكمة، طبقاً لأصول الفرد الاجتماعية، فيذهب أولاد الأثرياء والموسرين إلى مدارس نموذجية، تتيح لهم كل أسباب التفتح والانطلاق، وأولاد الفقراء إلى مدارس متهالكة بائسة تُنتج بائسين ليس إلا، وينطبق الأمر ذاته على الطبابة والغذاء، والسكن، واللباس، والتنقل، والعمل، والثقافة، وغيرها من جوانب العيش، ولو تأملنا ما يجري حولنا، لوجدنا العالم ينقسم على ذاته مرات عديدة في الدقيقة الواحدة، فيولّد الفقر فقراً وعلى كل المستويات، والثراء ثراءً وعلى كل المستويات.
إنّ الغاية النبيلة من تصحيح عواقب التفاوت الاجتماعي المتراكم، بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، تنسجم مع مطلب المواطنة.
فالمجتمع الأمثل هو الذي يسمح بتجاوز أشكال التمييز الاجتماعي، وإذا انتفى التمييز الاجتماعي الأصلي، فحينئذٍ يكون التفاوت في الحصص الموزعة، على أساس الاعتراف بالفضل الحقيقي لا الوراثي.
إنّها حق كل فرد في مجتمع ما في التمتع بالحصول على الفرص المتاحة للفئات المميزة.
أما فرص العمل، فهي تكاد أن تتوزع بدورها طبقياً، فيفوز المحظوظون بالمناصب والمواقع الوازنة، وفي لبنان على سبيل المثال تتفاقم الأمور ويضاف إلى العامل الطبقي، عامل الولاء السياسي، حيث يتم توزيع فرص العمل في مؤسسات الدولة على أنصار القوى السياسية وجلاوزتها، وحتى الخدمات الاجتماعية التي تتيحها الدولة، تعيد هذه القوى توزيع بعضها على المحسوبين، من مثل خدمات الطبابة، وعطاءات وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الأشغال، وإذا استرسلنا سنجد المزيد من الأدلة على توزيع الفرص على أساس طبقي اجتماعي سياسي، وأعتقد أنّ لكل بلد عربي خصائصه في توزيع الفرص، وإعادة إنتاج التفاوتات والتمايزات.
وهنا أستطرد لأقول إنّ معركة العدالة في لبنان هي معركة سياسية بنيوية، وتخاض على أكثر من مستوى وصعيد، بالنضال من أجل تغيير النظام في اتجاه مدني علماني مساواتي، ومن أجل كبح جماح الرأسماليين على أنواعهم، والذين يستغلون مقولة إنّ الاقتصاد اللبناني حر، ولا يجوز وضع ضوابط له، فيسترسلون في قهر العمال، وسرقة أموال الناس، إن بفرض أجور منخفضة على العمال وبعدم توفير شروط عمل لائقة لهؤلاء، أو باحتكار السلع وبيعها بأسعار مرتفعة، أما عن أحابيل أصحاب المصارف بالتعامل مع ودائع الناس، فهي غنية عن الوصف، ولاستغلال الرأسماليين والملاّك للناس أشكال، وأفانين، لا مجال لسردها الآن وهنا.
وسأثير موضوعاً إضافياً ينسجم مع مزاج اليساري الجديد والقديم، وهو موضوع إعادة توزيع الثروة الذي يبرز كحق عام في الخيرات التي يجمعها أحدهم، على حساب عموم الناس.
فعلى الدولة التي تأخذ حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والبيئية على محمل الجد، وتَعدّها من أولوياتها، وضع استراتيجيات لإعادة توزيع الثروة على حساب المحظوظين الذين ابتسمت لهم المصادفة، أو القوة، أو القوانين المجحفة، أو راودتهم عن نفسهم شهوة الربح والاستغلال، فعلى هؤلاء المستفيدين من الثروة العامة، تقع ضريبة الفروقات الاجتماعية الاعتباطية، وعليهم التنازل الإجباري عن امتيازاتهم، التاريخية المتوارثة، باسم "الحق العام" وحق كل فرد في الثروة العامة، كي توظّف مشاركاتهم، لصالح الطبقات المستفيدة من دينامية مراكمة الثروات، وهذه المشاركات ليست سوى الضرائب التصاعدية، التي تعتمدها معظم الدول الديمقراطية والتي تصل أحياناً إلى 70% من معدل أرباح الرأسماليين.
ولا تستقيم هذه المسؤوليات والالتزامات الكبرى في دولة تشهر الحياد التام تجاه حراك اقتصادها الوطني، فعلى عاتق هذه الدولة تقع مسؤولية رفع مستوى معيشة مواطنيها وزيادة الدخل القومي، وخلق فرص عمل، ما يوجب تدخلها في القطاعات الإنتاجية دعماً وترشيداً وتصويباً، ولدينا عدة أمثلة على تدخل الدولة الإيجابي والمجدي في الاقتصاد، منها تجربة كوريا الجنوبية، الناهضة اقتصادياً والتي يطلق عليها اسم "النمر الآسيوي"، فهذه الدولة أحسنت حماية قطاعاتها الإنتاجية وتوجيهها، وتوصلت إلى الانتقال بالبلاد من اقتصاد زراعي متخلف إلى اقتصاد صناعي متقدم.
ولكنّنا كبلدان عربية غائبون عما يجري في العالم، ولا نكف عن النظر إلى أنفسنا بنرجسية مدمرة، ولا تملك حكوماتنا، على الأقل غالبيتها العظمى، لا الطموح، ولا الإرادة، ولا الشعور بالمسؤولية العامة، لإخراج شعوبها من مآزقها.
وبأية حال تقع على اليساريين مسؤولية تجذير مفهوم "المواطنة" وموجباته، فاحترام حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتنموية لا يتحقق في ظل اقتصاد متفلت من كل قيد، فعلى اليساريين فرض وضع الاقتصاد في خدمة المجتمع، وهنا يكمن مغزى مفهوم الاشتراكية.
أين نحن من هذه الحقوق التي أقرها الضمير العالمي، والمجتمع الدولي، والتي تعمل بها العديد من الدول الغربية، التي توفر شكلاً مرموقاً من أشكال "العدالة الاجتماعية"، جعل الشبان والشابات والعائلات العربية، واللبنانية خصوصاً، على ما نشاهد ونختبر، تزحف زحفاً إليها، سعياً وراء هذه الغطاءات والتأمينات والحقوق.
نحن نعاني من احتقار الحكومات العربية لشعوبها، فهي لا تنظر إلى مواطنيها "الافتراضيين" ككائنات حقوقية، يُفترض أن تدور حول حقوقها السياسية والمدنية، والاقتصادية والاجتماعية كل الاستراتيجيات والسياسات، والقرارات، بل هي تنظر إليها ككائنات فائضة عن الحاجة، ينبغي لجمها وضبطها، وفي أحسن الأحوال إبقاؤها على قيد الحياة، كي تكون موضوعاً للسلطة، والتسلط والتحكم، وموضوعاً لخدمة ذوي السلطان والثروة.
كما أنّنا نعاني من نظرة هؤلاء الأفراد إلى أنفسهم، نظرة جزئية مبتورة، فهم أعضاء في عشيرة، أو طائفة، أو دين، قبل أن يكونوا أعضاءً في دولة، فالانتماء إلى الوطن، كان دائماً وما يزال، "علامة زائدة على النسب"، كما يقول ابن خلدون.
إنّنا مدعوون كيساريين إلى العمل والنضال من أجل تطبيق الإعلانات والاتفاقيات العالمية بنداً بنداً، إلى تحويلها إلى برنامج نضالي، وإلى جعلها مادةً للتثقيف السياسي العمومي، فمن العوائق الأساسية أمام تطور مجتمعاتنا نحو الديمقراطية، بكل مترتباتها، غياب الثقافة الشعبية الحقوقية المدنية، فنحن مطالبون بالترويج لمفاهيم الحق، والقانون، والعدالة، سواء بسواء، وجعلها إنجيلاً جديداً.
إنّ الإعلانات والاتفاقيات الدولية، تشكل مرجعية مكينة، حقيقية وفعلية، صالحة للاستشهاد بها والاستناد إليها، وما حجة "الخصوصيات المحلية" سوى وسيلة لإغفالها والتغاضي عنها، ومن المثير للحيرة أنّ الكثير من الدول ادعت في دساتيرها احترام المواثيق الدولية.
ما لم نجد مرجعية عالمية كونية نتمسك ونسترشد بها، سنظل نحرث في الماء، وسيظل خطابنا التغييري خطاباً أعجمياً مشتتاً، أو مجموعة نظريات ترقد بين دفّتي كتاب، ولا تحد طريقها إلى التجسد. بتنا في حاجة إلى إعلان "شرعة حقوق المواطن في كل بلد عربي".
ولكنّ الطروحات اليسارية الرائجة عالية النبرة، ويتضمن بعضها مشاريع تغييرية جذرية، نكاد نقول انقلابية، تتخطى موضوعة "المواطنة".
وإذا نشدنا كيساذريين التغيير السلمي الديمقراطي لبلوغ أهدافنا، ولا مناص من أن ننشده، كيف نستطيع القفز فوق مكانة الفرد في الدولة وعلاقته بها، وإغفال حقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والثقافية، التي تكرست عالمياً وباتت في قلب سياسات الدول الديمقراطية، وإن تفاوتت الإنجازات بين دولة وأخرى؟

 أنت تثيرين في كتاباتك مشكلة عدم الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، في الوقت الذي يجري فيه التداول بمصطلح "المواطن الكوني". فهل من صلة بين طروحاتك حول ترسيخ فكرة "المواطنة" وتحويلها إلى هدف رئيسي، وفكرة الانتماء إلى الوطن؟
أنا أعتقد أنّ عدم الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، وأشدّد على كلمة عميق، هو أحد الأسباب الكامنة وراء عدم الشعور بالمسؤولية العامة، والحرص العام، وعدم الفاعلية، وعندم النزاهة، واللامبالاة والإحباط، على مستوى الحكام والمحكومين، سواء بسواء، مع التشديد على أنّ انعدام الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، لدى الحكام أشد تأثيراً على الأحداث، من تأثير المحكومين، وهذا بديهي لأنّهم في موقع القرار، والتشريع والتنفيذ، والحل والربط.
يحضرني هنا ما يقوله "مونتسكيو" في "روح القوانين" شارحاً مسببات الفساد، فهو يفترض أنّ الفساد يتأسس على غياب ما يسميه "حب الوطن"، وما نسميه نحن "الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن".
ونحن عندما نتحدث عن "الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن"، إنّما نعني الشعور بالانتماء الآيل إلى الشعور بالمسؤولية، والالتزام، أو الواجب، وإلى خلق ضوابط ذاتية، تتخطى بأشواط الارتباط العاطفي الرومنسي بالأوطان. ربما نحتاج إلى إعادة تعريف مفهوم الانتماء.
تعريفاً، الانتماء هو الارتباط الوجداني والفكري، والواقعي، بمجموعة اجتماعية، وبمجموعة أفكار ومعتقدات، أو بأفكار فلسفية، أو بمكان، أو شيء، أو...
ونستطيع أن نتوسع في مفهوم الانتماء استناداً إلى التعريف الذي أوردناه، فنجعله يتمدد إلى المؤسسة التي نعمل فيها، إلى أفراد عائلتنا، إلى أصدقائنا، إلى الحي أو البلدة التي نحيا فيها، وخصوصاً إلى أنفسنا وذواتنا، أي إلى هويتنا الشخصية.
إنّ درجات الانتماء في نفسية الفرد وشخصيته وكيفية تراتبها ونوعية تأثيرها في سلوكه، قضية معقدة في ذاتها، إلا أنّها نزداد تعقيداً بتفكك المجتمع، وعدم وجود انتماء واحد يشمل أفراده جميعهم، ويعلو على الانتماءات الأخرى التي تتجاذبهم.
لعل الفارق الاجتماعي الأهم بين المجتمعات النامية أو المتعثرة، يكمن في مستوى تطور ظاهرة الانتماء، فالمجتمعات المتقدمة في معظمها، قطعت مراحل عدة من مراحل الوجود الوطني القومي، وجعلت الانتماء القومي الأولوية والصدارة، ومثل ذلك لم يحصل في مجتمعاتنا، حيث الانتماء الوطني ما زال يتصارع مع الانتماء العشائري، والقبلي، أو الديني، والطائفي، الذي يكاد يكون بيولوجياً.
أما الارتباط بالوطن، فيجري التعبير عنه بنمطين من الشعور، الأول، وهو الشعور بالانتماء الفطري، إلى مساحة جغرافية سياسية وتاريخية، محددة، بحدود فاصلة عن غيرها من المساحات، هو الانتماء إلى مكان الولادة، والطفولة، والقرابة، والإقامة، والدراسة، والعمل، والأصدقاء، وسائر وجوه الحياة اليومية، والثاني هو الانتماء العميق إلى الوطن، وأشدد على كلمة عميق، والذي يستلزم ارتباطاً عقلياً وبراغماتياً وعملياً بالوطن، لا روحياً فحسب، والشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، يولّد شعوراً بالرضى والاستقرار والإشباع.
يحول الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، العضوية في حياة الجماعة، إلى تفاعل حيوي، إيجابي، وبنّاء، يؤثر في نفسية الفرد تأثيراً جذرياً، يجعل المواطن يغلّب انتماءه الوطني العام، على انتمائه العشائري والطائفي والديني، ويجعل الحاكم يغلّب المصالح العامة على مصلحته الذاتية، السياسوية، والسلطوية، والمالية.
ثمة علاقة جدلية بين الحالتين، فالمواطن الواعي بذاته، ككائن حقوقي مسؤول ومنتمٍ، لن يتيح للحاكم الاسترسال والتمادي في شططه.
ولن يتم ذلك على الأغلب بقرار يتخذه الفرد لحسابه الخاص، بقدر ما يتم تحت تأثير عام، يشمل المجتمع الذي يعيش فيه، كفاعلين ومنفعلين، في آن، وهذا ما لن يتحقق إلا بالتأسيس لدولة "المواطنة".
فكلمة وطن في الفرنسية تعني Patrie وهي مشتقة من Pater في اللاتينية، أو Père في الفرنسية، وتعني في الاستعمالين "الأب"، أي إنّ الكلمة بدلالاتها المجازية تُنسب إلى الأب، فهو وطن الأب الذي يرشد ويحمي ويعتني، ويمارس سلطة، وفي العربية تضاف إلى كلمة وطن كلمة "أم"، والأم توحي بالاحتضان والرعاية والحرص والحماية، ومن يتعلق بها، يتعلق بها كمن يتعلق بحبل السرة، بينما في بلادنا فهو يكاد لا يعني سوى مكان الولادة والإقامة والعيش.
إنّ شعور الأفراد بالانتماء العميق إلى الوطن، الذي لا يتكون إلا بإشباع حاجات الفرد المادية، الاقتصادية، والاجتماعية، التنموية، وحاجاته السياسية والمدنية، إلى ما هنالك من حقوق، متعارف عليها، هو ركيزة الشعور بـ "الهوية الوطنية"، فالهوية الوطنية ليست مجرد علامة على تموضع الأفراد في التاريخ والجغرافيا، أو مجرد جنسية للتعريف بالذات، أمام الشعوب الأخرى، أو مجرد إذن بالإقامة، والتجول، في بلد معين، والاستفادة من الخدمات الشحيحة التي يوفرها هذا البلد، كما أسلفنا.
إنّها علاقة جدلية مثلثة الأبعاد، إنّ الهوية الوطنية إنّما تنبني على الشعور بالانتماء العميق لا السطحي إلى الوطن، والشعور بالانتماء العميق إلى الوطن لا يتم إلا بإشباع حاجات الفرد المادية والمعنوية الرمزية، وإشباع هذه الحاجات لا يتم إلا بالتأسيس لدولة المواطنة واعتبار المواطن كائناً حقوقياً وسيداً لا عبداً منصاعاً.
أما مفهوم "المواطنة الكونية"، فهو مصطلح يطلق على الإنسان الذي يستطيع التفاعل مع أي شخص آخر مهما اختلفت ثقافته وموطنه، وهو شعور الشخص بالانتماء إلى مجتمع يتخطى الحدود الجغرافية والوطنية، إلى شعور يُظهر القاسم المشترك بين البشر، مبني على التعاطف الثقافي واحترام الاختلاف والتنوع.
هو مفهوم نبيل وإنساني ومثالي، ولكنّ الإنسان الكوني يقتضي وجوده شروطاً واقعية، تؤهله للانفتاح على الآخرين أياً كانت انتماءاتهم، ولكنّنا لا نستطيع توقع هذا الانفتاح من إنسان محروم، ومن التعليم، والعمل، والغذاء، والسكن، وكل أشكال الحياة، وهو فوق ذلك يعاني أزمة هوية وطنية وانتماء، ومواطنة.

 وكيف تعرّفين الهوية الوطنية من هذا المنظور؟
هي الهوية الجماعية العليا التي يدرك الفرد ذاته فيها، وفي تفاعله معها، والهوية الوطنية هي التي تجمع المقيمين في بلد واحد، في منطقة جغرافية وسياسية واحدة، والذين يتفاعلون، بطريقة أو بأخرى، على مدار الساعة، ويتلقون الأحداث ذاتها، ويجمعهم مصير واحد، وتحكمهم سلطة واحدة، وقوانين واحدة، وأهداف سياسية عليا واحدة.
وهذه الهوية الجماعية لا يكتمل عقدها، ما لم تتجذر في مبدأ المواطنة والمساواة، فإذا طبقنا هذه المعايير على الهويات العربية، نجدها مشروخة، فإذا توفرت بعض العناصر غابت أخرى، وعلى رأسها الشعور بالمساواة أمام القوانين والحقوق والفرص.
وأختم لأقول، لا وطن حقيقي بدون هوية وطنية مكينة، ولا هوية وطنية مكينة بدون الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، الذي لا يستقيم ولا ينهض بدون الاعتراف بالمواطن وحقوقه.



#عايدة_الجوهري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوعي بالذات... وعي بالجسد
- في أن تكون يسارياً
- النساء الممنوعات من الضحك
- على النساء رمي ذواتهنّ القديمة
- النساءُ الممنوعاتُ من الكلام
- نحن في حاجة إلى حكام يتوجعون
- -حقوق الطوائف- كمشكلة أخلاقية وحقوقية
- القتل باسم الدين والبارانويا
- كان بكاءُ ردينة، ذات البضعة أشهر، وهي الطفلة الخامسة لعائلة ...
- في كراهية النساء
- دروس شهرزاد
- توقفوا عن تشويه مفهوم الدولة المدنية
- لا عزاء للسيدات إلا بقانون مدني للأحوال الشخصية
- غرام الثوار اللبنانيين بالعفوية
- الشعب اللبناني يريد إسقاط النظام
- برنامج الأنوثة
- عن الذي جمعني ونوال السعداوي في كتاب
- الجسد هو الذي يكتب
- النبوءة والفحولة
- عصاب الفحولة (1)


المزيد.....




- صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة ...
- مقتل صحفيين فلسطينيين خلال تغطيتهما المواجهات في خان يونس
- إسرائيل تعتبر محادثات صفقة الرهائن -الفرصة الأخيرة- قبل الغز ...
- مقتل نجمة التيك توك العراقية -أم فهد- بالرصاص في بغداد
- قصف روسي أوكراني متبادل على مواقع للطاقة يوقع إصابات مؤثرة
- الشرطة الألمانية تفض بالقوة اعتصاما لمتضامنين مع سكان غزة
- ما الاستثمارات التي يريد طلاب أميركا من جامعاتهم سحبها؟
- بعثة أممية تدين الهجوم الدموي على حقل غاز بكردستان العراق
- أنباء عن نية بلجيكا تزويد أوكرانيا بـ4 مقاتلات -إف-16-
- فريق روسي يحقق -إنجازات ذهبية- في أولمبياد -منديلييف- للكيمي ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عايدة الجوهري - اليساري الجديد